ضيفنا في هذا الموضوع ضيف مختلف، لن يكون أحد الزملاء المزعجين أو الأصدقاء الطيبين، بل سيكون ضيفا يحمل في طياته ألم و أمل، ألم زُرع في لحظة دخول النعش و سُقي بالعذاب لمدة عشرين عاما، ثم جُنيَت ثماره المُرة بعد "نيل الحرية و تَحقُقِ الأمل" بالعودة إلى استئناف شبح حياة كانت قد توقفت عند عتبات السجن القاسي !
في رحلة عمل إلى دبي شهر إبريل الفائت، أحضرت معي كتابا كان قد شدني فيه مقدمته التي قرأتها في أحد المدونات المهتمة بالقراءة، فقررت أن أشتريه في أقرب وقت، و قد حصل لي ما أردت و اشتريته في رحلة عمل سبقت رحلة إبريل بشهر أي في مارس الفائت.
بمجرد أن صعدت الطائرة و أخذت مكاني المخصص حتى استخرجت الكتاب بلهفة من الحقيبة اليدوية و شرعت بنهم في سبر أغواره، صفحة بعد صفحة و ما أحسست إلا بوقع الأنامل السوداء للطائرة تلامس المدرج !
سأتكلم في هذا الموضوع و أمر بإيجاز على كل فصل من فصوله مع تعليق بسيط إن أمكن، آملا أن يجد القارئ الكريم في هذه اللمحة السريعة ضالته المنشودة عن هذا الكتاب، فلربما سمع عنه القليل و أراد أن يستزيد، فأقول .. أهلا و سهلا .. هنا تجد مرادك يا عزيزي.
المقدمةميشيل .. الصديقة الوفية الأكثر قربا لقلب مليكة، تروي قصة لقائها الأول في فرنسا مع مليكة في حفل عشاء بمنزل أحد صديقاتهم الإيرانيات، نشأت علاقة ود لحظية بمجرد رؤيتهم لبعضم و منذ ذلك الحين هي الصديقة الوفية و القريبة لمليكة.
من يقرأ المقدمة بصفحاتها البضع و العشرين يستطيع أن يلم بمحتوى الكتاب و لكن بشكل مختصر كما هي الحال في المقدمات، تم التطرق للجنرال محمد أوفقير والد مليكة و كيف تم اغتياله على إثر محاولة انقلاب ضد العاهل الأردني الحسن الثاني حيث كان الجنرال آنذاك وزير الدفاع و رئيس لأركان الجيش، بعدها تم زج مليكة و عائلتها جميعا في السجن.
تطرقت أيضا لمحاولة الكتابة الأولى لكتاب السجينة - الذي سبق هذا الكتاب - و كيف استرسلت مليكة بعد صعوبة واجهتها في التغلب على مخاوفها التي خلفها عذاب السجن، و في معرض حديثها ذكرت أن أوبرا وينفري قد اشترت عددا كبيرا جدا من الكتاب بعد صدوره تشجيعا لها و إعجابا بقصتها.
الرجل الأول في حياتيلم تستطع مليكة كتم مشاعر الأمومة التي تحس بها بالرغم من عقمها و عدم القدرة على الانجاب بسبب مرض أصابها و هي في السجن، فبتواجدها في رابطة حماية الطفولة في مراكش - يبدو لي أنه ملجأ للأطفال الغير شرعيين أو الأيتام - تفجرت تلك المشاعر بداخلها و لم تتمالك نفسها و أخذت تحدق في الزجاجات التي تحوي أطفالا حديثي الولادة، ثم أعطتها أمها أحد الرضع الذكور ذو الأسبوعان و همست لها أن هذا هو ابنك، و تبدأ في التكلم عن حبها لتبنيه و أنه الطفل الذي ملأ حياتها إشراقا و ضياءا بالرغم من أن ابنة أختها الصغيرة - نوال - تعيش مع مليكة و زوجها إيريك لكنها لا تشعر كفاية بأنها أمها.
الحرية المرةمن المغرب إلى باريس، تذوق مليكة الحرية لأول مرة من غير أن تشعر برقابة صارمة كما عاشتها تحت الإقامة الجبرية في المغرب لمدة خمس سنوات بعد خروجها مع أهلها من السجن، لم تستطع مليكة أن تتجاهل ما حدث لها سابقا، حيث روت لنا قصة دخولها قصر الحسن الثاني و حياتها الملكية في سنوات عمرها الأولى إلى أن حدث الانقلاب و تم إقصاؤها هي و أهلها إلى المجهول.
بعد الخروج من السجن و خلال مدة الإقامة الجبرية، تمكنت أخت مليكة الصغيرة من الهرب بأعجوبة عبر سفينة أقلتها من المغرب إلى إسبانيا ثم توجهت إلى فرنسا حيث ألبت الرأي العام و أثارت قضيتهم هناك و تحت هذا الضغط الإعلامي تمكنت عائلة أوفقير من الحصول على جوزات و أوراق رسمية مكنتهم من مغادرة المغرب.
إيريك الشرقيإيريك ذو الأصول الشرقية كان بمثابة الحب الأول الذي لم تستطع مليكة بكل ما أوتيت من قوة أن تصرفه عنها، فبعد أن عاشت معه فترة تُمكن أي فتاة طبيعية من الإنجاب، لم تستطع هي إسعاد زوجها بطفل فحاولت مراراً أن تحرضه على هجرها - أظنه دهاءاً - و ذكرت أن من أفضل إنجازاتها أن جعلت إيريك يتزوجها في النهاية!
يحتوي هذا الجزء من الكتاب على قصة كفاحها للاعتياد على عادات الناس في التسوق العصري، و كيف أن إيريك هو من شجعها و ساعدها على تخطي هذه المعضلة الكبيرة !!
الخوف من الآخرينالرهاب من الزي الرسمي لقوات الأمن لم يكن مرضا قد أستوعبُ وجوده قبل قراءتي لهذا الفصل، لكن بعد قراءتي باستغراب للتفاصيل المذكورة أحسست بأن مليكة فعلا تعاني من أزمة بعد خروجها من السجن و أنها في صراع من أجل التأقلم مع الحياة المعاصرة التي توقفت عن ممارستها في لحظة دخولها السجن !
هيبيرناتا في باريستزداد دهشتي أكثر حين قراءة هذا الفصل، تخيل أنك توقفت عن الحياة - سبات - لمدة عشرين عاما و من ثم استيقظت و وجدت نفسك في عالم آخر !!
لن أشرح أكثر، فهذا الجزء من الكتاب يستحق التوقف عنده في رأيي.
حينما كان المال ملموساهل سبق لك مرة و أن توقفت في طابور لشراء حاجات المنزل و كان أمامك زبون قد فتح محفظته على مصراعيها و بهرتك ألوان بطاقات الإئتمان البراقة !؟ هنا أفصحت مليكة عن حاجتها الماسة للمال الملموس رغم ثروتها الطائلة التي حققتها بشهرتها بعد الخروج من السجن !!
سؤال بسيط .. هل فكرت يوما في أن آلة السحب الآلي للنقود ستكون معضلة لك !؟ مليكة لها قصة غريبة ترويها مع تلك الآلات و كيف أنها تشكل هاجسا مخيفا لها !!
البؤسمليكة تعتب على البشر الأحرار في باريس طريقة عيشهم اللامبالي بغيره من البؤساء و المشردين فهي تحس بهم كونها عاشت نصف حياتها شقاءاً و عذاباً في السجن، حيث أنني استنبطت من حديثها عدم اكتراث الناس بمن حولهم من المتسولين و المشردين و الضعفاء الذين لا مأوى لهم.
قيل لها يوما ..
لا يمكن إيواء جميع الكلاب الضالة .. لن تستطيع مليكة تجاوز هذا الكلام فطبيعتها و تربيتها لا تسمحان بذلك.
الشهيةفي نظر مليكة .. هناك أناس يأكلون للبقاء فقط، و هناك أناس يأكلون لا من جوعٍ، بل من أجل استمتاع، هذه حقيقة يجب التوقف عندها و هذا الفصل بالذات جعلني أقف مع نفسي و أُقلب التفكير بطريقة الحياة التي أعيشها و النظر إلى واقعنا البائس !
قراءة هذا الفصل يذكرني بنعمة الله علينا أن حبانا و أغدق علينا بشتى أنواع النعم في حين ان غيرنا لا يجد كسرة خبز !
يقول الله تعالى:
وَإذ تأذن ربكم لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
الكتابة شهادة على حياة
لولا الكتابة لضاع التاريخ، فكما قيل "العلم صيد و الكتابة قيد، فأحكم الصيد بالقيد"، و هذا فعلا ما شعرت به مليكة حينما روت مأساتها و سطرت شهادتها في كتاب السجينة - كتابها الأول قبل هذا - حيث بلغ ذاك الكتاب من الشهرة ما مكنه من تصدر قائمة أفضل الكتب لأسابيع، و روت في هذا الفصل كيفية التغلب على مخاوفها من مواجهة الجمهور.
حقيقة .. أعجبني تفكير مليكة في عدم الخلط بين قضيتين رئيسيتين ألا وهما حب الوطن و الولاء له و كره الجلاد الذي حكم الوطن و استعبد أهله.
مغربيتحية إكبار و إجلال لروح الوطنية في مليكة، رغم حياة الجحيم في المغرب و رغم خسارتها لأكثر من نصف عمرها هناك تحت وطئة السجن إلا أنها تدافع عن بلدها و تعتبره هو الجنة.
الملتحيانتسخر مليكة من حركة تُدعى التمامية في المغرب و تتهمها بأنها من الحركات الأصولية التي تتصيد الشباب في المساجد و تغسل أدمغتهم، و مع إشارتها في هذا الفصل بأنها مسلمة إلا أنها و في رأيي لا تحمل من الإسلام إلا اسمه.
سجينة الصحراءلا شيء أفضل من شعور الانسان بالرضى الداخلي لعمل قد أنجزه، هكذا تصف مليكة نفسها عندما تتكلم عن وظيفتها التي من خلالها أحست أنها إنسانة، و لم تنسَ مليكة أن تتكلم عن أزلام النظام المغربي آنذاك حينما كان يضايقها لمجرد التضييق عليها حتى إن أحد أرباب عملها أراد فصلها من العمل بسبب الرعب المسيطر عليهم.
تنجذب مليكة لحياة الصحراء و كأنها قطعة من الأرض قد نبتت هناك، فوصفها لصحراء المغرب كان جميلاً جداً.
أن أكون أما أخيراأُختتم الفصل بعبارة "
أنا أم، و كنت أجهل ذلك" ، تطرق هذا الفصل لحادثة قلبت مفاهيم مليكة رأسا على عقب و جعلتها تتفوه بالعبارة السابقة.
جميل في أن تحس المرأة بمشاعر الأمومة حتى لو لم يهبها الله طفلا.
الحب في الأربعينتكلمت مليكة في هذا الفصل عن علاقاتها العاطفية بكل شفافية و أريحية بعد خروجها من السجن، لم تعجبني بعض أحداث هذا الفصل و تفاصيله كونه مُبتذلا بحيث لم تستح من الإفصاح عن تفاصيل علاقاتها الجنسية التي مرت بها !
باختصار شديد، هذا الفصل فصل العلاقات العاطفية إلى أن التقت بإيريك الذي تزوجها في النهاية.
الحلم الأمريكي"أن ينتشر كتابي السجينة في باريس قد يكون معقولاً، و أن ينتشر في أوربا مترجما إلى لغاتها من الممكن تحققه، لكن أن يترجم إلى الإنجليزية و ينتشر في أمريكا فهذا من المستحيل"
هكذا شعرت مليكة حين صدور كتابها الأول و انتشاره في فرنسا حتى لحظة تصدر كتابها قائمة المبيعات في الولايات المتحدة، لم تصدق يوما في أنها قد تكون محط أنظار آلة الاعلام الأمريكية الضخمة، و كلامها عن مقابلة أوبرا لها في برنامجها الشهير "أوبرا" خير دليل !
لم تستطع أن تكتم انبهارها بالولايات المتحدة حتى قررت الاستقرار في ميامي مع زوجها إيريك و آدم ابنها بالتبني.
موت الملك"ألو .. مات" .. مكالمة من صديقة مليكة من المغرب، لكم أن تتخيلوا قدر الرعب المخيم على صدور المغاربة في ذلك الوقت، بلا مبالغة المكالمة كلمتين فقط، و مليكة تدرك مقدار المعاناة التي يعيشها أهل المغرب و خوفهم من طغيان السلطة، ففهمت الإشارة و أغلقت الهاتف.
خيبة أمل الصحافة كانت كبيرة، كانوا يتوقعون تصاريح نارية من مليكة لكنها خيبت آمالهم و أفصحت عن ما يجول في خاطرها بعكس ما كانت تتوقع الصحافة.
الولادة من جديدتزمامارت، السجن المشئوم الذي لم يفتح أبوابه إلا متأخراً و في الوقت الضائع حينما تعفنت أجساد المئات من السجناء السياسيين و اختفوا من على وجه الأرض، و كُتب للقليل من السجناء النجاة و وُلدوا من جديد !
ذكرت مليكة في هذا الفصل أنها تدين لامرأتان في حياتها ساعدتاها للتخلص من الحقد الدفين الذي تكنه للملك الحسن الثاني و ما فعله بأهلها.
التعويض
المال لا يُعوض سنوات الضياع، فمجرد استلامها شيك بمبلغ معين لا يعني شراء حقها في التكلم و سرد قصة المعاناة التي مرت بها و عائلتها، و كان عزاؤها الوحيد أن المغرب قد شكلت لجنة تعويضات للضحايا و كان اسمها و عائلتها مدرجاً في قائمة الضحايا مما شكل لها ارتياحاً بأن هذا قد يكون بالنسبة لها اعترافاً من المغرب أنها ضحية على الأقل.
كشفت مليكة بأن سر التعويض عن الحرمان و ضياع العمر هو الحب الذي مُنحته من قبل من أحاطها بالرعاية و الوقوف بجانبها بعد خروجها من السجن.
في نهاية الحديث، أرجو أن يكون القارئ الكريم قد حصل على معلومات كافية حول هذا الكتاب الشيق، فلقد حاولت قدر المستطاع أن أختصر الكتاب بفقرات موجزة سبق و أن مررتم عليها.
قد ينتابكم الفضول مثلي لمعرفة تفاصيل مقابلة أوبرا لمليكة، فقد بحثت عن المقابلة بشكل مضن و لم أجد لها أثر في يوتيوب
وجدت المقابلة من ضمن حلقة خاصة لمناقشة كتابها و حصريا بحجم صغير على موقع نادي أوبرا للكتاب ..
اضغط هناأما ما حدث بعد النقاش من أسئلة و تواصل مع الجمهور في الاستديو تجدونه
هنا